فصل: تفسير الآيات رقم (6- 19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة الشمس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والشمسِ وضُحاها‏}‏ أي‏:‏ وَضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها، ‏{‏والقمرِ إِذا تلاها‏}‏؛ تبعها في الضياء والنور وذلك في النصف الأول من الشهر، يخلف القمرُ الشمسَ في النور، ‏{‏والنهارِ إِذا جلاَّها‏}‏ أي‏:‏ جلّى الشمسَ وأظهرها للرائين، وذلك عند افتتاح النهار وانبساطه؛ لأنَّ الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء، وقيل‏:‏ الضمير للظلمة أو الأرض، وإن لم يجر لها ذكر، كقوله‏:‏ ‏{‏مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏، ‏{‏والليلِ إِذا يغشاها‏}‏ أي‏:‏ يستر الشمس ويُظْلِمُ الأفاق، والواو الأولى في هذه الأشياء للقسم باتفاق، وكذا الثانية عند البعض وعند الخليل‏:‏ الثانية للعطف؛ لأنَّ إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز، ألا ترى‏:‏ أنك لو جعلت مرضعها كلمة الفاء أو «ثم» لكان المعنى على حاله، وهما حرفا عطف وكذا الواو، ومَن قال‏:‏ إنها للقسَمَ احتجّ بأنها لو كانت للعطف لكان عطفاً على عاملين، لأنَّ قوله‏:‏ ‏{‏والليل‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1‏]‏ مثلاً مجرور بواو القسم، ‏{‏إِذا يغشى‏}‏ منصوب بالفعل المقدّر الذي هو أقسم، فلو جعلت الواو التي في ‏{‏والنهار إِذَا تجلى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 2‏]‏ للعطف لكان النهار معطوفاً على الليل جرًّا، و‏{‏إذا تجلى‏}‏ معطوفاً على «يغشى» نصباً، وكان كقولك‏:‏ إنَّ في الدار زيداً، والحُجرة عَمْراً، وأجيب بأنّ واو القسم تنزّلت منزلة الباء والفعل، حتى لم يجز إبراز الفعل معها، فصار كأنها العاملة جرًّا ونصباً، وصارت كعاملٍ واحد له معمولان، وكلُّ عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحدٍ بالاتفاق، نحو‏:‏ ضرب زيدٌ عمراً وأبو بكر خالداً، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام العامل‏.‏

‏{‏والسماءِ وما بناها‏}‏ أي‏:‏ ومَن بناها، وإيثار «ما» على «مَنْ» لإرادة الوصفيّة تفخيماً، كأنه قيل‏:‏ والقادر العظيم الذي بناها، وجعلُها مصدرية مخلّ بالنظم الكريم، وكذا في قوله‏:‏ ‏{‏والأرضِ وما طحاها‏}‏ أي‏:‏ بسطها من كل جانب، ك «دحاها»‏.‏

‏{‏ونفسٍ وما سوَّاها‏}‏ أي‏:‏ والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها وأتقن صورتها، مستعدة لكمالاتها، والتنكير للتفخيم، على أنَّ المراد نفس آدم عليه السلام أو للتكثير، وهو الأنسب للجواب، أي‏:‏ ومَن سوّى كلَّ نفس، ‏{‏فألْهَمَها فجورَها وتقواها‏}‏ أي‏:‏ ألهمها طاعتها ومعصيتها، وأفهمها قبح المعصية وحسن الطاعة أو عَرَّفها طرق الفجور والتقوى، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى «أو» كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ أي‏:‏ ألهم مَن أراد شقاوتها فجورها فسعت إليه، وألهم مَن أراد سعادتها تقواها، فسعت إليه‏.‏ ‏{‏قد أفلح مَن زَكَّاها‏}‏ أي‏:‏ فاز بكل مطلوب، ونجا مِن كل مكروه مَن طَهَّرَها وأصلحها وجعلها زكيةً بالإيمان والطاعة، ‏{‏وقد خاب مَن دسَّاها‏}‏؛ أغواها، قال عكرمة‏:‏ «أفلحت نفس زكّاها اللهُ، وخابت نفس أغواها الله» ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد‏.‏

والتدسية‏:‏ النفس والإخفاء، أي‏:‏ خسر مَن نقصها وأخفاها بالفجور وأصل دسّى‏:‏ دسّس كتقضى وتقضض، فأبدل من الحرف الثالث ياء، قال في الكافية‏:‏

وثالث الأمثال أبدلنه ياء *** نحو تظنا خالد تظنينا

وجواب القسم محذوف، والتقدير‏:‏ ليهلكنّ الله مَن كفر من قريش ويُدمدم عليهم كما دمدم على ثمود، وقيل‏:‏ «قد أفلح» وليس بشيء، وقيل‏:‏ «كذبت ثمود» على إضمار «قد» والأول أحسن والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ والشمس شمس العرفان، وابتداء ضُحاها في أول الفناء والقمر قمر الإيمان إذا تلاها بالرجوع للأثر بالتنزُّل لعالم الحكمة كمالاً وتكميلاً، والنهار نهار التمكين إذا جلاّها، أي‏:‏ ظلمة حس الكائنات، وقلعها مِن أصلها بشهود المكوِّن والليل؛ ليل القطيعة، إذا يغشاها بقهرية الحق اختباراً، هل يضطرب ويفزع فيُردّ عليه، أو يتسلّى فيُسلب أو نهار البسط إذا جلاّها، أي‏:‏ ظلمة القبض، وليل القبض إذا يغشاها، أي‏:‏ شمس نهار البسط، أقسم تعالى بتعاقبهما والسماء سماء الأرواح وما بناها؛ رفعها، والأرض أرض الأشباح، وما طحاها أي‏:‏ بسطها للعبودية ونفسٍ وما سوّاها؛ ألقى صورتها وهيّأها للقُرب والبُعد فألهمها فجورها وتقواها بما أعطاها من نور العقل، قال الورتجبي‏:‏ سوّاها بتسوية الصِفة ورقمها بنور الآزلية، ثم بيَّن أنه تعالى عرّفها طرق لطيفات الذات، وقهرية الصفات بنفسه بلا واسطة بقوله‏:‏ ‏{‏فألهمها فجورها وتقواها‏}‏ عرّفها أولاَ طريق القهر حتى عرفت المهلكات ثم عرَّفها طريق اللطف حتى عرفت معالجتها من المنجيات والمقصود منها‏:‏ عرفانها عند الحق بطريق القهر واللطف، حتى تكمل معرفةُ صانعها‏.‏ ه‏.‏

قال القشيري‏:‏ فألهمها فجورها وتقواها‏:‏ بأن خَذَلَها ووَفَّقَها، ويقال‏:‏ فجورها‏:‏ حركتها في طلب الرزق، وتقواها‏:‏ سكونها لحُكْم التقدير‏.‏ ثم قال‏:‏ ويُقال‏:‏ أفلح مَن طهَّرها من الذنوب والعيوب، ثم عن الأطماع في الأَعواض، ثم العبد نفسه عن الاعتراض على الأنام، وعن ارتكاب الحرام، وقد خاب مَن خان نفسه وأهملها عن المراعاة، ودسَّها بالمخالفات، وفي نوادر الأصول ما حاصله‏:‏ أنَّ دسّاها بمنزلة مَن دسّ شيئاً في كوة، يمنع من دخول الضوء، كذلك الهوى والشهوة سدّ وغلّق على القلب من حصول ضوء القربة والوصلة‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 15‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏كذبتْ ثمودُ‏}‏ صالحاً ‏{‏بطغواها‏}‏ أي‏:‏ بسبب طغيانها، إذ الحامل لهم على التكذيب هو طغيانهم، وفيه وعظ لأمثالهم، وتهديد للحاضرين الطاغين؛ لأنَّ الطغيان أجرم الجرائم الموجبة للهلاك والخيبةِ في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏إِذ انبعث أشقاها‏}‏، منصوب ب «كذبتْ»، أي‏:‏ حين قام أشقى ثمود، وهو‏:‏ قُدّار بن سالف، أو‏:‏ هو ومَن تصدّى معه للعقر من الأشقياء، فإنَّ أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد، والمذكر والمؤنث‏.‏ وفضل شقاوتهم على مَن عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به‏.‏

‏{‏فقال لهم‏}‏ أي‏:‏ لثمود ‏{‏رسولُ الله‏}‏ صالح عليه السلام عبَّر عنه بعنوان الرسالة إيذاناً بوجوب طاعته وبياناً لغاية عتوهم، وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في تقوله‏:‏ ‏{‏ناقةَ الله‏}‏ أي‏:‏ احذروا عقرها، أو احفظوها، ‏{‏و‏}‏ الزموا ‏{‏سُقياها‏}‏ فلا تُدَوروها في نوبتها، وهما منصوبان على التحذير‏.‏ ‏{‏فكذّبوه‏}‏ فيما حذّرهم به من نزول العذاب بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏، ‏{‏فعقروها‏}‏، أسند الفعل إليهم، وإن كان العاقر واحداً، لقوله‏:‏ ‏{‏فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ ‏(‏29‏)‏‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 29‏]‏ لرضاهم به‏.‏ قال قتادة‏:‏ بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم‏.‏ وذكرانهم وإناثهم «‏.‏ ‏{‏فَدَمْدَمَ عليهم ربُّهم‏}‏؛ فأطبق عليهم العذاب حتى استأصلهم‏.‏ قال الهروي‏:‏ إذا كررت الإطباق قلت‏:‏ دمدمت عليه، أي‏:‏ أدمت عليه الدمدمة وقيل‏:‏ فدمدم عليهم‏:‏ عَضِبَ عليهم، ‏{‏بذنبهم‏}‏؛ بسبب ذنبهم، وصّرح به مع دلالة الفاء عليه للإيذان بأنه عاقبة كل ذنب ليعتبر به كل مذنب‏.‏ ‏{‏فسوَّاها‏}‏ أي‏:‏ الدمدمةّ بينهم، لم يفلت منهم أحد من صغيرهم وكبيرهم، أو فسوّى ثمود بالأرض بتسوية بنائها وهدمه، ‏{‏وَلآ يَخَافُ عُقْبَآهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 15‏]‏ أي‏:‏ عاقبتها وتَبِعَتها، كما يخاف سائر المعاقِبين أي‏:‏ فعل ذلك غير خائف أن يلحقه تبعة مِن أحد، كما يخاف مَن يعاقب مِن الملوك وغيرهم لأنه تصرف في ملكه، ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ومَن قرأ بالواو فهو للحال، أو الاستئناف‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ كذبت ثمودُ النفس بسبب طغيانها على القلب بالشهوات الحيوانية واللذات الجسمانية، إذ انبعث أشقاها، هو الهوى المتبع، الساعي في قتل ناقة الروح، فقال لهم رسول الله؛ القلب الصالح‏:‏ ناقةَ الله أي‏:‏ اتركوا ناقةَ الله ترعى في المراتع الروحانية، من المكاشفات والمشاهدات والمعاينات، فكذّبوه؛ فكذبت ثمود النفس وجنودُها رسولَ القلب، فعقروها، أي‏:‏ الروح بالظلمة النفسانية والشهوة الحيوانية، فَدَمْدَم عليهم ربُّهم؛ على ثمود النفس وقومها عذاب البُعد والطرد بذنبهم، فسوّاها، أي‏:‏ فسوّى الدمدمة، وهي الإطباق على النفس وجنودها، فلا يخاف عقباها لغناه عن العالمين‏.‏ ه‏.‏ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

سورة الليل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والليلِ إِذا يغشى‏}‏ أي‏:‏ حين يغشى الشمس، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 4‏]‏ أو‏:‏ كل ما يواريه بظلامه‏.‏ وقال القشيري‏:‏ إذا يغشى الأفق وما بين السماء والأرض فيستره بظلمته‏.‏ ‏{‏والنهارِ إِذا تَجَلَّى‏}‏ أي‏:‏ ظهر وأسفر ووضح، ‏{‏وماخَلَقَ الذكَرَ والأُنثى‏}‏ أي‏:‏ والقادر الذي خلق الذكر والأنثى من كل ما له توالد مِن ماءٍ واحد، وقيل‏:‏ هما آدم وحواء، و«ما» بمعنى «من» أو مصدرية‏.‏ وقُرىء «والذكر والأنثى» وقرىء «الذي خلق الذكر والأنثى»‏.‏ جواب القسم‏:‏ ‏{‏إِنَّ سعيَكم‏}‏ أي‏:‏ عملكم ‏{‏لشتَّى‏}‏؛ لمختلف، جمع شتيت، أي‏:‏ إنّ مساعيكم لأشتات مختلفة‏.‏

ثم فصّله فقال‏:‏ ‏{‏فأّمَّا مَن أعطى‏}‏ حقوق ماله ‏{‏واتقى‏}‏ محارمَ الله التي نهى عنها، ‏{‏وصدَّق بالحسنى‏}‏؛ بالخصلة الحُسنى، وهي الإيمان، أو بالكلمة الحسنى، وهي كلمة التوحيد أو بالملة الحسنى، وهي الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والتصديق هو أن يرى أنَّ ما وعده اللهُ به يوصله إليه، ولا يجري على قلبه خاطر شك ‏{‏فسَنُيَسِّره لليُسرى‏}‏؛ فسنهيئه للطريقة التي تؤدي إلى الراحة واليُسر، كدخول الجنة ومبادئه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ معناه‏:‏ سنظهر عليه تيسيرنا إياه بما يتدرج فيه من أعمال الخير، وحَتْم تيسيره كان في علم الله أزلاً‏.‏ ه‏.‏ يقال‏:‏ يسَّرَ الفرس، إذا أسرجها وألجمها‏.‏

‏{‏وأمّا مَن بَخِلَ‏}‏ بماله فلم يبذله في سبيل الخير، ‏{‏واستغنَى‏}‏ أي‏:‏ زهد فيما عند الله تعالى، كأنه مستغنٍ عنه فلم يتقه، أو‏:‏ استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، ‏{‏وكَذَّب بالحُسنى‏}‏ أي‏:‏ بالخصلة الحسنى، على ما ذكر من معانيها ‏{‏فسَنُيَسِّره للعُسرى‏}‏ أي‏:‏ للخصلة المؤدّية إلى العسر والشدة، كدخول النار ومقدماته، لاختياره لها‏.‏ وقال الإمام أي الفخر‏:‏ كل ما أدّت عاقبته إلى الراحة والأمور المحمودة، فذلك اليسرى، وهو وصف كل الطاعات وكل ما أدّت عاقبته إلى التعب والردى، فذلك العُسرى، وهو وصف كل المعاصي‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وما يُغني عنه مالُه‏}‏ الذي بَخِلَ به، أي‏:‏ لا ينفعه شيئاً ‏{‏إِذا تَرَدَّى‏}‏؛ هَلَكَ، تفعّل، من الردى، أو تردَّى في حفرة القبر، أو في قعر جهنّم، والعياذ بالله‏.‏

الإشارة‏:‏ أقسم تعالى بليل الحجاب، إذا يغشى القلوبَ المحجوبة، ونهار التجلِّي إذا يغشى القلوب الصافية، وكأنه تعالى أقسم بقهر جلاله، ولُطف جماله، وقدرته على خلق أصناف الحيوانات، إنَّ سعي الناس لشتى، فأمّا مَن أعطى مالَه ونفسَه، واتقى كلَّ ما يشغله عن المولى، فَسنُيَسِّره لسلوك الطريق اليُسرى، التي توصل إلى حضرة المولى‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ سهّل له طريقَ الوصول إليه، ويرفع عنه الكلفة والتعب في العبودية‏.‏ وقال القشيري‏:‏ نُسَهِّلُ عليه الطاعات، ونُكَرِّه إليه المخالفات، ونهيىء له القُربَ، ونُحَبِّبُ له الإيمان، ونُزَيِّن في قلبه الإحسان‏.‏ ه‏.‏ وأمَّا مَن بَخِلَ بماله ونفسه، واستغنى عن معرفة ربه معرفة العيان وقنع بمقام الإيمان، فسَنُيسره للعُسرى، وهي طريق البُعد والحجاب، كاشتغاله بحب الدنيا، وجمع المال، وما يُغني عنه ماله إذا تردى في مهاوي البُعد والردى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 21‏]‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّ علينا لَلْهُدى‏}‏؛ إنَّ علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل، وتبيين الشرائع، أو‏:‏ إن علينا بموجب قضائنا المَبْنيِّ على الحِكَم البالغة، حيث خلقنا الخلق للعبادة، أن نُبيّن لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه، وقد فعلنا ذلك مما لا مزيد عليه، حيث بَيَّنَّا حال مَن سلك كلا الطريقين، ترغيباً وترهيباً فتبيّن أنَّ الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى البُغية، لا الدلالة الموصلة إليها حتماً‏.‏ قاله أبو السعود‏.‏

‏{‏وإِنَّ لنا للآخرة والأُولى‏}‏ أي‏:‏ التصرُّف الكلي فيهما، كيفما نشاء، فنفعل فيهما ما نشاء، فنُعطي الدنيا لمَن نشاء، والآخرة لمَن نشاء، أو نجمع له بينهما، أو نحرمه منهما، فمَن طلبهما مِن غيرنا فقد أخطأ، أو‏:‏ إنَّ لنا كُلَّ ما في الدنيا والآخرة، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهُدانا‏.‏

‏{‏فَأّنْذَرتكم‏}‏؛ خوَّفتكم ‏{‏ناراً تلضى‏}‏؛ تتلهب، ‏{‏لا يَصْلاها إِلاّ الأشقى‏}‏؛ لا يدخلها للخلود فيها إلاّ مَن سبق له الشقاء، ‏{‏الذي كذَّب وتَوَلَّى‏}‏ أي‏:‏ الكافر الذي كذّب الرسولَ صلى الله عليه وسلم، وتَوَلى عن الإيمان، ‏{‏وسَيُجنبها‏}‏؛ وسيبعِّدها ‏{‏الأتقى‏}‏؛ المؤمن المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي، فلا يحوم حولها، فضلاً عن دخولها، وأمّا مَن دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي فلا يبعد هذا البُعد، وذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور، فلا يُنافي الحصر المذكور‏.‏ ‏{‏الذي يُؤتى مالَه‏}‏ للفقراء ‏{‏يتزكَّى‏}‏ أي‏:‏ يطلب أن يكون عند الله زاكياً، لا يُريد به رياءً ولا سمعةً، من‏:‏ الزكا، وهو الزيادة، أو‏:‏ تفعّل من الزكاة، أو‏:‏ يتطهر من الذنوب والعيوب، وهو حال من ضمير «يؤتى»‏.‏ ‏{‏وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى‏}‏ أي‏:‏ ليس لأحدٍ عنده نعمة من شأنها تجزى وتكافأ، ‏{‏إِلاَّ ابتغاءَ وجه ربه‏}‏‏:‏ استثناء منقطع، أي‏:‏ لكن يفعل ذلك ابتغاء وجه ربه ‏{‏الأعلى‏}‏ أي‏:‏ الرفيع بسلطانه، المنيع في شأنه وبرهانه‏.‏

والآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً في جماعة كان المشركون يؤذونهم، فأعتقهم‏.‏ ولذلك قالوا‏:‏ المراد بالأشقى‏:‏ أبو جهل وأمية بن خلف‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ عذَّب المشركون بلالاً، وبلالٌ يقول‏:‏ أَحَدٌ أَحَدٌ، فمرّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «ينجيك أحد أحد» ثم أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وقال له‏:‏ «إنَّ بلالاً يُعذَّب في الله» فعرف مراده فاشتراه برطل من ذهب، وقيل‏:‏ اشتراه بعبدٍ كان عنده اسمه «نسطاس» وكان له عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري، وكان مشركاً، فقال له الصدِّيق‏:‏ أسْلِم ولك جميع مالك، فأبى، فدفعه لأمية بن خلف، وأخذ بلالاً، فأعتقه، فقال المشركون‏:‏ ما أعتقه إلا ليدٍ كانت له عنده، فنزلت ‏.‏

رُوي أنه اشتراه، وهو مدفون بالحجارة، يُعَذَّب على الإسلام، قال عروة‏:‏ أَعتق أبو بكر سبعة، كلهم يُعذب في الله، بلال وعامر بن فهيرة، والنجدية وبنتها، وزِنِّيرة، وبيرة، وأم عُبيس، وأمة بني المؤمِّل‏.‏ قال‏:‏ وأسْلَم وله أربعون ألفاً، فأنفقها كلها في سبيل الله‏.‏ وقال ابن الزبير‏:‏ كان أبو بكر يشتري الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه‏:‏ لو كنت تبتاع مَن يمنع ظهرك، فقال‏:‏ مَنْعَ ظهري أريد، فنزلت فيه‏:‏ ‏{‏وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى ‏(‏17‏)‏‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 17‏]‏ الآية‏.‏ واسمه‏:‏ عبد الله بن عثمان، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، فسمّاه الرسولُ صلى الله عليه وسلم عبد الله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولسوف يرضى‏}‏ جواب قسم مضمر، أي‏:‏ والله لسوف نُجازيه فيرضى، وهو وعد كريم لنيل جميع ما يبتغيه على أفضل الوجوه وأكملها، إذ به يتحقق رضاه وهو كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى ‏(‏5‏)‏‏}‏ ‏[‏الضحى‏:‏ 5‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ إنّ علينا لبيان الطريق لِمن طلب الوصول إلى عين التحقيق، فإنا أنزلنا كتاباً ما فرطنا فيه من شيء، وبعثنا رسولاً يهدي إلى الرشد، وجعلنا له خلفاء في كل زمان، يهدون بأمرنا إلى حضرة قدسنا، وإنَّ لنا للآخرةَ لِمن طلبها، والأوُلى لِمن طلبها، وأظهرنا أسرار ذاتِنا لمَن طلبها، فأنذرتكم ناراً تلظى، وهي نار البُعد لا يصلاها إلاّ الأشقى الذي سبق له البُعد منا‏.‏ ‏{‏الذي كذَّب وتولَّى‏}‏، قال القشيري‏:‏ أي كذَّب الحق في مظاهر الأولياء والمشايخ وأرباب السلوك، وأعْرَض عن قبول إرشادهم ونصائحهم، وعن استماع معارفهم ومواجيدهم الكشفية الشهودية، وسيُجنبها الأتقى، أي‏:‏ يُجنب طريق البُعد ونار الحجاب مَن اتقى السِّوى، الذي يؤتى ماله تقرُّباً إلى الله ليتزكّى من العيوب والأنانية، ‏{‏وما لأحدٍ عنده من نعمة تُجزى‏}‏ أي‏:‏ ليس إحسانه في مقابلة حرف ‏{‏إلاّ ابتغاء وجه ربه الأعلى‏}‏ أي‏:‏ إلاّ طلب معرفة ذاته العلية، ‏{‏ولَسَوف يَرضى‏}‏ بدوام شهود الذات الأقدس‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة الضحى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ‏(‏4‏)‏ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والضُحى‏}‏، المراد به‏:‏ وقت الضحى، وهو حدود النهار حتى ترتفع الشمس، وإنما خُصّ بالإقسام به لأنه الساعة التي كلّم الله فيها موسى عليه السلام، والتي وقع فيها السحرة ساجدين، أو‏:‏ النهار كلّه؛ لمقابلته بالليل في قوله‏:‏ ‏{‏والليلِ إِذا سجى‏}‏؛ سَكَن، المراد‏:‏ سكون الناس والأصوات فيه، أو ركد ظلامه، من‏:‏ سجا البحر إذا سكنت أمواجه، وقيل‏:‏ المراد بالضحى‏:‏ ساعة مناجاة موسى، وبالليل‏:‏ ليلة المعراج‏.‏

وجواب القسم‏:‏ ‏{‏ما ودّعَكَ ربُّك‏}‏ أي‏:‏ ما تركك منذ اختارك، ‏{‏وما قَلَى‏}‏ أي‏:‏ وما أبغضك منذ أحبك، والتوديع‏:‏ مبالغةٌ في الودْع، وهو الترك؛ لأنَّ مَن ودّعك مفارقاً فقد بالغ في تركك‏.‏ رُوي أنَّ الوحي تأخّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً، فقال المشركون‏:‏ إنَّ محمداً ودَعَهُ ربُّه وقلاه، فنزلت ردًّا عليهم، وتبشيراً له صلى الله عليه وسلم بالكرامة الحاصلة‏.‏ وحذف الضمير من «قَلَى» إمّا للفواصل، أو للاستغناء عنه بذكره قبل، أو‏:‏ للقصد إلى نفس صدور الفعل عنه تعالى، مع قطع النظر عما يقع عليه الفعل بالكلية، وحيث تضمّن ما سبق من نفي التوديع، والقَلى أنه تعالى يُواصله بالوحي والكرامة في الدنيا بَشَّر صلى الله عليه وسلم بأنّ ما سيؤتاه في الآخرة أجلّ وأعظم بذلك، فقيل‏:‏ ‏{‏وللآخرةُ خير لك من الأُولى‏}‏، لأنَّ ما فيها من النِعم صافية من الشوائب على الإطلاق، وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي صلى الله عليه وسلم من شرف النبوة، وإن كان مما لا يُعادله شرف، ولا يُدانيه فضل، لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض الشاقة على النفس‏.‏

ووجه اتصال الآية بما قبلها‏:‏ أنه لمَّا كان في ضمن نفي التوديع والقَلي أنَّ الله يُواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، أخبر أن ما له في الآخرة أعظم وأشرف، وذلك لتقدُّمه على الأنبياء في الشفاعة الكبرى، وشهادة أمته على الأمم، ورفع درجات المؤمنين، وإعلاء مراتبهم بشفاعته، وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تُحيط بها العبارة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولَسَوْفَ يُعطيك ربُّك فترضى‏}‏ وَعْد كريمٌ شاملٌ لِما أعطاه الله تعالى في الدنيا، من كما اليقين، وعلوم الأولين والآخرين، وظهور أمره، وإعلاء دينه بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله عليه وسلم، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك الإسلامية، وفشو الدعوة، وإعلاء منار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولِما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلاَّ الله عزّ وجل، وقد أنبأ ابنُ عباسٍ عن شيء منها، حيث قال‏:‏ «أعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابه المسك»‏.‏ وفي الحديث‏:‏ لَمَّا نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أنا لا أرضى وواحد من أمتي في النار» قال بعضهم‏:‏ هذه أرجى أية في القرآن‏.‏ ودخل صلى الله عليه وسلم على فاطمة، وعليها ثياب من صوف وشعر، وهي تطحن وتُرضع ولدها، فدمعت عيناه، وقال‏:‏ «يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة» ثم تلا‏:‏ ‏{‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏}‏‏.‏ واللام للقسم، وإنما لم تدخل نون التوكيد لفصل السين بين القسم والفعل‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ يُشير إلى القسم بضحوة نهار قلب الرسول، عند انتشار شمس روحه على بشريته، وبِلَيل بشريته عند أحكام الطبيعة وسلوك آثار البشريه لغلبة سلطان الحقيقة، ما ودَّعك ربك بقطع فيض النبوة والرسالة عن ظاهرك، وما قَلَى بقطع فيض الولاية عن قلبك، ‏{‏وللآخرةُ خير لك من الأولى‏}‏ يعني‏:‏ أحوال نهايتك أفضل وأكمل من أحوال بدايتك، لأنه صلى الله عليه وسلم لا يزال يطير بجناحي الشريعة والطريقة في جو سماء الحقيقة، ويترقّى في مقامات القٌرب والكرامة‏.‏ ه‏.‏ ويمكن الخطاب بالسورة الكريمة لخليفته من العارفين، الدعاة إلى الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ‏(‏6‏)‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏أَلمْ يَجِدْكَ يتيماً‏}‏ من أبويك ‏{‏فآوى‏}‏ أي‏:‏ ضمَّك إلى جدك، ثم إلى عمك أبي طالب‏.‏ رُوي أنَّ أباه مات وهو جنين، قد أتت عليه ستة أشهر، وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فكلفه أولاً جدُّه عبد المطلب، فلما مات جده كَفَلَه عَمُّه أبو طالب، فأحسن تربيته، وذلك إيواؤه، وقال القشيري‏:‏ ويُقال‏:‏ بل آواه إلى ظل كَنَفِه، وربَّاه بلطف رعايته‏.‏ ه‏.‏

والحكمة في يُتمه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألاّ يكون عليه منّة لأحدٍ سوى كفالة الحق تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول العرب‏:‏ دُرة يتيمة إذا لم يكن لها مِثل، أي‏:‏ ألم يجدك وحيداً في شرفك وفضلك، لا نظير لك فآواك إلى حضرته‏.‏

‏{‏وَوَجَدَك ضالا‏}‏؛ غافلاً عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول، ‏{‏فَهَدَى‏}‏؛ فهداك إليها، كقوله‏:‏ ‏{‏مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وقال القشيري‏:‏ أي‏:‏ ضالاًّ عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها، وعَرَّفناك تفصيلَها‏.‏ ه‏.‏ أو‏:‏ ضالاً عما أنت عليه اليوم من معالم النبوة، ولم يقل أحد من المفسرين‏:‏ ضالاًّ عن الإيمان‏.‏ قاله عياض‏:‏ وقيل‏:‏ ضلّ في صباه في بعض شِعاب مكة، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب، وقيل‏:‏ ضلّ مرة أخرى، وطلبوه فلم يجدوه، فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرّع إلى الله، فسمعوا هاتفاً يُنادي من السماء‏:‏ يا معشر الناس، لا تضجُّوا، فإنَّ لمحمدٍ ربَّا لا يخذله ولا يُضيّعه‏.‏ وأنَّ محمداً بوادي تهامة عند شجرة السمر، فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة، يلعب بالإغصان والأوراق‏.‏ وقيل‏:‏ أضلته مرضعته حليمة عند باب الكعبة حين فطمته، وجاءت به لترده على عبد المطلب، وقيل‏:‏ ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، يُروى أن إبليس أخذ بزمام ناقته في ليل ظلماء فعدل به عن الطريق، فجاء جبريلُ عليه السلام، فنفخ إبليسَ نفخة وقع منها إلى أرض الهند، وردّه إلى القافلة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَدَى‏}‏ أي‏:‏ فهداك إلى منهاج الشرائع المنطوية في تضاعيف ما يُوحى إليك من الكتاب المبين، وعلَّمك ما لم تكن تعلم‏.‏ ‏{‏ووجدك عائلاً‏}‏؛ فقيراً من حس الدنيا، ‏{‏فأَغْنَى‏}‏؛ فأغناك به عما سواه، وزوّجك خديجة، فقامت بمؤونة العيش، أو بما أفاء عليك من الغنائم، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جعل رزقي تحت ظل رمحي»‏.‏

‏{‏فأمَّا اليتيمَ فلا تقهرْ‏}‏، قال المفسرون‏:‏ أي‏:‏ لا تغلبه على ماله وحقه، لأجل ضعفه، وأذكر يتمك، ولا تقهره بالمنع من مصالحه، ووجوه القهر كثيرة والنهي يعم جميعها، أي‏:‏ دُم على ما أنت عليه من عدم قهر اليتيم‏.‏ وقد ورد في الوصية باليتيم أحاديث، منها‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أنا وكافلُ اليتيم في الجنة كهاتين إذا اتقى الله» وأشار بالسبابة والوُسطى، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله تعالى‏:‏ يا ملائكتي؛ مَن أبكى هذا اليتيم الذي غيبتُ أباه في التراب‏؟‏ فتقول الملائكة‏:‏ ربنا أنت أعلم، فيقول الله تعالى‏:‏ يا ملائكتي فإني أُشهدكم أنَّ لمن أسكته وأرضاه أنْ أُرضيه يوم القيامة»، فكان عمر إذا رأى يتيماً مسح رأسه وأعطاه شيئاً‏.‏ وقال أنس‏:‏ «مَن ضمّ يتيماً، فكان في نفقته، وكفاه مؤنته، كان له حجاباً من النار يوم القيامة، ومَن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة»‏.‏

‏{‏وأمَّا السائِلَ فلا تنهرْ‏}‏ أي‏:‏ لا تزجره ولا تعبس في وجهه، ولا تغلظ له القول، بل ردّه ردًّا جميلاً، قال إبراهيم بن أدهم‏:‏ نِعم القوم السُؤَّال يحملون زادنا إلى الآخرة‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول‏:‏ أتبعثون إلى أهليكم بشيء‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يمنعنّ أحدُكم السائلَ وإن في يديْه قُلْبَين، من ذهب» أي‏:‏ سوارين‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ «أعط السائل ولو على فرسه» وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا رددت السائل ثلاثاُ فلم يرجع عليك أن تَزْبُرَه» وقال الحسن‏:‏ المراد بالسائل هنا‏:‏ السائل عن العلم‏.‏

‏{‏وأمَّا بنعمةِ ربك فحدِّث‏}‏ بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها يرد ما أفاضه الله تعالى عليه من فنون النعم، التي من جملتها المعدودة والموعودة والنبوة التي آتاه الله تأتي على جميع النِعم، ويَدخل في النِعم تعلُّم العلم والقرآن، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «التحدُّث بالنِعَم شكر» ولذلك كان بعض السلف يقول‏:‏ لقد أعطاني الله كذا، ولقد صلَّيتُ البارحة كذا، وهذا إنما يجوز إذا ذكره على وجه الشكر، أو ليُقتدى به، فأمّا على وجه الفخر والرياء فلا يجوز‏.‏ ه‏.‏

انظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث وصايا، فقال في قوله‏:‏ ‏{‏ألم يجدك يتيماً‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فأمّا اليتيم فلا تَقْهَر‏}‏ وقابل قولَه‏:‏ ‏{‏ووجدك ضالاً‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وأمّا السائل فلا تَنْهَر‏}‏ على مَن قال‏:‏ إنه طالب العلم، وقابل بقوله‏:‏ ‏{‏وأمّا بنعمة ربك فَحَدِّث‏}‏ على القول الآخر وقابل قوله‏:‏ ‏{‏ووجدك عائلاً فأَغْنَى‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وأمّا السائل فلا تَنْهر‏}‏ على القول الأظهر، وقابله بقوله‏:‏ ‏{‏وأمَّا بنعمة ربك فحدِّث‏}‏ على القول الآخر ه‏.‏ من ابن جزي‏.‏

ولمَّا قرأ صلى الله عليه وسلم سورة الضحى كبّر في آخرها، فسُنَّ التكبير آخرها، وورد الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها في رواية البزي‏.‏

الإشارة‏:‏ ألم يجدك يتيماً فرداً من العلائق، مجرداً مما سوى الله، فآواك إليه، وهي طريقة كل متوجه، لا يأويه الحق إليه حتى يكون يتيماً من الهوى، بل بقلبٍ مُفرد، فيه توحيد مجرد‏.‏

قال القشيري‏:‏ ويُقال فآواك إلى بساط القربة، بحيث انفردْتَ بمقامِك، فلم يُشاركك فيه أحد‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ووجدك ضالاًّ‏}‏ قيل‏:‏ متردداً في معاني غوامض المحبة، فهداك بلطفه لها، أو‏:‏ وجدك مُتحيراً عن إدراك حقيقتنا، فكملناك بأنوار ربوبيتنا حتى أدركتنا بنا، وفي هذا ملاءمة لمعنى الافتتاح‏.‏ قال القشيري‏:‏ ويُقال‏:‏ ضالاًّ عن محبتي لكن فعرَّفْتُك أني أُحبك، ويقال‏:‏ جاهلاً شرفَك فعرَّفْتُك قَدْرَكَ‏.‏ ه‏.‏ ووجدك عائلاً فقيراً مما سواه، فأغناك به عن كل شيء، إلاّ طلب الزيادة في العلوم والعرفان، فلا قناعة من ذلك، ‏{‏وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏‏.‏ وفي القوت‏:‏ إنما أغناه بوصفه، لا بالأسباب وهو أعز على الله من أن يجعل غناه من الدنيا أو يرضاها له‏.‏ ه‏.‏ وكما أنَّ الله تعالى غَنِيّ بذاته، لا بالأعراض والأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم غَنِيّ بربه لا بالأعراض‏.‏ قاله في الحاشية‏.‏ قلت‏:‏ وكذلك الأولياء رضي الله عنهم سَرَى فيهم اسمه تعالى «الغَنيِّ» فصاروا أغنياء بلا سبب، وما وصّى به الحقٌّ تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم يُوصَّى به خلفاؤه من قوله‏:‏ ‏{‏فأمّا اليتيم فلا تقهر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة الشرح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ‏(‏1‏)‏ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ‏(‏3‏)‏ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ‏(‏4‏)‏ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ‏(‏7‏)‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلاّ جلاله‏:‏ ‏{‏ألم نشرحْ لك صدرك‏}‏ أي‏:‏ ألم نوسعه ونفسحه حتى حوى عالَم الغيب والشهادة، وجمع بين ملَكتي الاستفادة والإفادة، فما صدتك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملِكات الروحانية، وما عاقك التعلُّق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شهود الحق، وقيل‏:‏ المراد شرح جبريل صدرَه في حال صباه، حين شقّه وأخرج منه علقة سوداء، أو ليلة المعراج فملأه إيماناً وحكمة‏.‏ والتعبير عن الشرح بالاستفهام الإنكاري للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يُجِيب عنه بغير «بلى»‏.‏

وزيادة «لك» وتوسُّطه بين الفعل ومفعوله للإيذان بأنَّ الشرح من منافعة صلى الله عليه وسلم ومصالحة، مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه صلى الله عليه وسلم وتشويقاً إلى ما يعقبه، ليتمكن عنده وقتَ وروده فضل تمكُّن‏.‏ وقال في الوجيز‏:‏ هو استفهام معناه التقرير، أي‏:‏ ألم نفتح ونُوسِّع لك قلبك بالإيمان والنبوة والعلم والحكمة‏.‏ قال في الحاشية الفاسية‏:‏ والظاهر أنه إيثار بما طلبه موسى عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 25‏]‏، وأنه بادَاه به من غير طلب، وهو قَدْر زائد على مطلق الرسالة، متضمن حمل ثقل تبليغها لكونه في ذلك بربه ويناسبه ما بعده من وضع الوزر، وهو لغة‏:‏ الحمل الثقيل، كما في الوجيز، وشرح الصدر‏:‏ بسطه بنور إلهي‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ووضعنا عنك وِزْرَكَ‏}‏، عطف على مدلول الجملة السابقة، كأنه قيل‏:‏ قد شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك، أي‏:‏ حططنا عنك عبأك الثقيل، ‏{‏الذي أَنْقَضَ ظهرك‏}‏ أي‏:‏ أثقله حتى سمع له نقيض، وهو صوت الانتقاض، أي‏:‏ خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها، أو‏:‏ يُراد ترك الأفضل مع إتيان الفاضل، والأنبياء يعاتبون بمثلها، ووضعه عنه‏:‏ أن يغفر له‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ التفسير السالم فيه‏:‏ أن يتجوّز في الوضع بمعنى الإبعاد، أو يتجوّز في الوزر، فإن أريد بالوزر حقيقته فيكون المعنى‏:‏ أبعدنا عنك ما يتوهم أن يلحقك من الوزر اللاحق لنوعك، وإن أريد بالوزر المجازي، وهو ما يلحقه قِبَل النبوة من الهم والحزن بسبب جهلك ما أنت الآن عليه من الأحكام الشرعية، فيكون الوضع حقيقة، والوزر مجازاً‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ والظاهر‏:‏ أنَّ كل مقام له ذنوب، وهو رؤية التقصير في القيام بحقوق ذلك المقام، فحسنات الأبرار سيئات المقربين، فكلما علا المقام طُولب صاحبه بشدة الأدب، فكأنه صلى الله عليه وسلم خاف ألاّ يكون قام بحق المقام الذي أقامه الحق فيه، فاهتمّ من أجله، وجعل منه حملاً على ظهره، فأسقطه الحق تعالى عنه، وبشَّره بأنه مغفور له على الإطلاق؛ ليتخلّى من ذلك الاهتمام‏.‏

وزاده شرفاً بقوله‏:‏ ‏{‏ورفعنا لك ذِكرك‏}‏ أي‏:‏ نوّهنا باسمك وجعلناه شهيراً في المشارق والمغارب، ومِن رَفْعِ ذكره صلى الله عليه وسلم أن قرن اسمَه مع اسمِه في الشهادة والأذان والإقامة والخُطب والتشهُّد، وفي مواضع من القرآن‏:‏

‏{‏أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 13‏]‏ ‏{‏والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏، وتسميته رسول الله، ونبي الله، وقد ذكره في كتب الأولين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ رَفْعُ الذكر نعمة على الرسول، وكذا هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس، وخمول الذكر والاسم حسن للمنفردين للعبادة‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ والأحسن ما قاله الشيخ المرسي رضي الله عنه‏:‏ مَن أحبّ الظهور فهو عبد الظهور، ومَن أحبّ الخفاء فهو عبد الخفاء، ومَن أحبّ الله فلا عليه أخفاه أو أظهره‏.‏ ه‏.‏ والخمول للمريد أسلم، والظهور للواصل أشرف وأكمل‏.‏

ثم بشّر رسولَه وسلاَّه عما كان يلقى من أذى الكفار بقوله‏:‏ ‏{‏فإِنَّ مع العُسْرِ يُسراً‏}‏ أي‏:‏ إنّ مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يُسراً بإظهاره إياك عليهم حتى تغلبهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان المشركون يُعيّرون رسول الله والمسلمين بالفقر، حتى سبق إلى وهمه أنهم رَغِبُوا عن الإسلام لافتقار أهله، فذكّره ما أنعم به عليه من جلائل النعم، ثم قال‏:‏ ‏{‏فإِنَّ مع العسكر يُسراً‏}‏ كأنه قال‏:‏ خوّلناك ما خوّلناك فلا تيأس من فضل الله، ‏{‏إِنَّ مع العسر‏}‏ الذي أنتم فيه ‏{‏يُسراً‏}‏، وجيء بلفظ «مع» لغاية مقارنة اليسر للعسر؛ زيادةً في التسلية وتقوية لقلبه صلى الله عليه وسلم، وكذلك تكريره، وإنما قال صلى الله عليه وسلم عند نزولها‏:‏ «لن يغلب عسر يسرين» لأنَّ العسر أعيد مُعرّفاً فكان واحداً، لأنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى، واليُسر أعيد نكرة، والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، فصار المعنى‏:‏ إنَّ مع العُسر يسريْن، وبعضهم يكتبه بياءين، ولا وجه له‏.‏

‏{‏فإِذا فرغتَ‏}‏ من التبليغ أو الغزو ‏{‏فانصبْ‏}‏؛ فاجتهد في العبادة، وأَتعب نفسك شكراً لما أولاك من النِعم السابقة، ووعدك من الآلاء اللاحقة، أو‏:‏ فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الحق، وقيل‏:‏ فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء، أو‏:‏ إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب في الشفاعة، أي‏:‏ في سبب استحقاق الشفاعة، ‏{‏وإِلى ربك فارغبْ‏}‏ في السؤال، ولا تسأل غيره، فإنه القادر على إسعافك لا غيره‏.‏ وقُرىء‏:‏ «فرغِّب» أي‏:‏ الناس إلى ما عنده‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم من تعديد النعم عليه واستقراره بها، يُقال لخليفته العارف الداعي إلى الله، حرفاً بحرف، فيقال له‏:‏ ألم نُوسع صدرك لمعرفتي، ووضعنا عنك أوزارك حين توجهتَ إلينا، أو‏:‏ وضعنا عنك أثقال السير، فحملناك إلينا، فكنت محمولاً لا حاملاً، ورفعنا لك ذكرك حين هيأناك للدعوة، بعد أن أخملنا ذكرك حين كنت في السير لئلا يشغلك الناسُ عنا، فإنَّ مع عسر المجاهدة يُسر المشاهدة، فإذا فرغت من الدعوة والتذكير فأَتْعِب نفسك في العكوف في الحضرة، أو‏:‏ فإذا فرغت مِن كمالك فانصب في تكميل غيرك، وارغب في هداية الخلق‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة التين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ‏(‏1‏)‏ وَطُورِ سِينِينَ ‏(‏2‏)‏ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏6‏)‏ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ‏(‏7‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والتينِ والزيتونِ‏}‏، أقسم بهما تعالى لِما فيهما من المنافع الجمّة‏.‏ رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أُهْدِي له طبقٌ من تينٍ فأكل منه، وقال لأصحابه‏:‏ «كُلوا، فلو قلتُ إنَّ فاكهةً نزلت من الجنة لقُلتُ هذه، لأن فاكهة الجنة، بلا عَجَمِ، فكلوها فإنها تقْطَعُ البواسير، وتنفَعُ من النقْرسِ»‏.‏ وهو أيضاً فاكهة طيبة لا فضل له، وغذاء لطيف سريع الهضم، كثير النفع، ملين الطبع، ويحلل البلغم، ويُطهر الكليتين، ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمن البدن، ويفتح سُرد الكبد والطحال‏.‏ وعن عليّ بن موسى الرضا‏:‏ التين يزيل نكهة الفم، ويطيل الشعر، وهو أمان من الفالج‏.‏ ه‏.‏

وأمّا الزيتون فهو فاكهة وإدام ودواء، ولو لم يكن له سوى اختصاصه بدُهن كثير المنافع لكفى به فضلاً‏.‏ وشجرته هي الشجرة المباركة، المشهود لها في التنزيل‏.‏ ومرّ معاذُ بن جبل بشجرة الزيتون، فأخذ منها قضيباً واستاك به‏.‏ وقال‏:‏ سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «نعم السواك الزيتون، هي الشجرة المباركة، يطيب الفم، ويذهب بالحفرة» وقال‏:‏ «هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي» وعن ابن عباس‏:‏ هو تينكم هذا، وزيتونكم هذا‏.‏ وقيل‏:‏ هما جبلان بالشام ينبتانهما‏.‏

‏{‏وطُورِ سينينَ‏}‏، أضيف الطور وهو الجبل إلى «سينين» وهو البقعة، وهو الجبل الذي ناجى موسى عليه السلام ربَّه عليه، ويُقال له‏:‏ سينين وسيناء‏.‏ ‏{‏وهذا البلد الأمين‏}‏ وهو مكة، شرّفها الله، وأمانتها أنها تحفظ مَن دخلها كما يحفظ الأمين ما يُؤتمن عليه‏.‏ ووجه الإقسام بهاتين البقعتين المباركتين المشحونتين بخيرات الدنيا والآخرة غني عن الشرح والتبيين‏.‏

وجواب القسم‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإِنسانَ‏}‏ أي‏:‏ جنس الإنسان ‏{‏في أحسن تقويمٍ‏}‏ أي‏:‏ كائناً في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورةً ومعنى، حيث جعله اللهُ مستوي القامة، متناسب الأعضاء، متصفاً بصفات البارىء تعالى من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ الله خلق آدم على صورته»، وفي رواية‏:‏ «على صورة الرحمن» على بعض الأقوال‏.‏ وشرح عجائب الإنسان يطول‏.‏

‏{‏ثم رددناه أسفلَ سافلين‏}‏ أي‏:‏ جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح، وأسفل من كل سافل، لعدم جريانه على موجب ما خَلَقَه عليه من الصفات، التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين‏.‏ وقيل‏:‏ رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القدرة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق‏}‏ ‏[‏يَس‏:‏ 68‏]‏ أي‏:‏ ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتعديل أسفلَ مَن سفُلَ في حُسن الصورة والشكل حيث ننكسه في خلقه فقوَّس ظهره بعد اعتداله، وابْيَضَّ شعره بعد سواده، وتكمش جلده، وكَلّ سمعه وبصره‏.‏

‏{‏إِلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏، استثناء متصل على التفسير الأول، ومنقطع على الثاني، ‏{‏فلهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ‏}‏ أي‏:‏ رددناه أسفل السافلين إلاَّ مَن آمن، أو‏:‏ لكن الذين آمنوا وكانوا صالحين من الهرمى، فلهم ثواب غير منقطع، لطاعتهم وصبرهم على الشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاقّ والقيام بالعبادة، خصوصاً وقت الكبر‏.‏ وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفّف الله حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ ثمانين كُتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غُفرت ذنوبه وشفع في أهل بيته، وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له ما كان يعمله في صحته وشبابه»‏.‏

ودخلت الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين المعنيين هنا‏.‏ قاله النسفي‏.‏ والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏فما يُكَذِّبُك بعدُ بالدين‏}‏ للإنسان، على طريقة الالتفات، أي‏:‏ فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع، والبرهان الساطع بالجزاء، والمعنى‏:‏ إنَّ خلق الإنسان من نطفةٍ، وتسويته بشراً سويًّا، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق، وأنَّ مَن قدر على خلق الإنسان على هذا النمط العجيب لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك بالجزاء‏؟‏‏!‏ أو‏:‏ بالرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي‏:‏ فمَن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل القاطع‏؟‏

‏{‏أليس اللهُ بأحكم الحاكمين‏}‏ وعيد للكفار، وأنّه يحكم عليهم بما هو أهله، وهو من الحُكم والقضاء، أي‏:‏ أليس الله بأفضل الفاصلين فيفصل بينك وبين مكذِّبِيك‏.‏ وقيل‏:‏ مِن الحِكمة، بمعنى الإتقان، أي‏:‏ أليس مَن خلق الإنسان وصوّره في أحسن تقويم بأحكم الحكماء‏.‏ وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال‏:‏ «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين»‏.‏

الإشارة‏:‏ حاصل ما ذكره القشيري‏:‏ أنه تعالى أقسم بأربعة أشياء، لغاية شرفها؛ الأولى شجرة القلب التينية المثمِرة للعلوم اللدنية الخالصة عن نوى الشكوك العقلية والشبهة الوهمية، والثانية‏:‏ شجرة الروح المستضيئة من نور السر لكمال استعدادها، وإليه الإشاره بقوله‏:‏ ‏{‏يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ الخ‏.‏ والثالثة‏:‏ شجرة السر، الذي هو طور التجلِّي محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة‏.‏ والرابعة‏:‏ البلد الأمين، الذي هو حال التلبيس والخفاء، بعد التمكين، وهو الرجوع للأسباب، قياماً بآداب الحكمة ورسم العبودية، وهو مقام الكملة‏.‏ والمقسَم عليه‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏}‏ قال القشيري‏:‏ أي‏:‏ في المظهر الأكمل والأتم، والمحل الأعم، حامل الأمانة الإلهية، وصاحب الصورة الرحمانية، روحانيته أُم الروحانيات وطبيعته أجمع الأمزجة وأعدلها، ونشأته أوسع النشآت وأشملها‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وإليه أشار الششتري بقوله‏:‏

وفيك يطوى ما انتشر من الأواني‏.‏‏.‏‏.‏

وقول الشاعر‏:‏

يا تائهاً في مهمهٍ عن سره *** انظر تجد فيك الوجودَ بأسره

أنت الكمال طريقة وحقيقة *** يا جامعاً سر الإله بأسره

وقال في لطائف المنن، حاكياً عن شيخة أبي العباس المرسي‏:‏ قرأتُ ليلة ‏{‏والتين والزيتون‏}‏ إلى أن انتهيت إلى قوله‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين‏}‏ ففكرتُ في معنى الآية، فكشف لي عن اللوح المحفوظ، فإذا فيه مكتوب‏:‏ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم روحاً وعقلاً، ثم رددنا أسفل سافلين نفساً وهوى‏.‏ ه‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ الذين آمنوا‏.‏‏.‏‏}‏ الخ؛ هم أهل الروح والعقل، الباقون في حسن التقويم، وغيرهم أهل النفس والهوى، والله تعالى أعلم‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة العلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏(‏1‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ‏(‏2‏)‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم، في أول الوحي‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم ربك‏}‏ أي‏:‏ اقرأ هذا القرآن مفتتحاً باسم ربك، أو مستعيناً به، فالجار في محل الحال‏.‏ ويحتمل أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو باسم ربك، كأنه قيل له‏:‏ اقرأ هذا اللفظ‏.‏ والتعرُّض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية والروحانية بإنزال الوحي المشتمل على نهاية العلوم والحكم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذي خلقَ‏}‏ صفة للرب، ولم يذكر له مفعولاً؛ لأنَّ المعنى‏:‏ الذي حصل منه الخلق، واستأثر به، لا خالق سواه، أو تقديره‏:‏ خلق كلَّ شيء، فتناول كلَّ مخلوق؛ لأنه مطلق، فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من البعض‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَق الإِنسانَ‏}‏ بتخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله لشرفه، ولأنَّ التنزيل إنما هو إليه، ويجوز أن يُراد‏:‏ الذي خلق الإنسان، إلاَّ أنه ذكر مبهماً، ثم فسّر تفخيماً لخلقه، ودلالةً على عجيب فطرته‏.‏ قيل‏:‏ لمَّا ذكر فيما قبل أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك، ذكره هنا منبهاً على شيءٍ من أطواره، وذكر نعمته عليه، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك، وما يؤول إليه حاله في الآخرة، فإنه تفسير لقوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 4، 5‏]‏، ثم ذكر أصل نشأته بقوله‏:‏ ‏{‏مِن علقٍ‏}‏ ولم يقل من علقة؛ لأنَّ الإنسان في معنى الجمع‏.‏ وفيه إشارة إلى أنَّ ابتداء الدين كابتداء خلق الإنسان، كان ضعيفاً ثم تقوّى شيئاً فشيئاً حتى انتهى كماله‏.‏

ثم كرّر الأمر بالقراءة بقوله‏:‏ ‏{‏اقرأْ‏}‏ أي‏:‏ افعل ما أُمرتَ به، تأكيداً للإيجاب وتمهيداً لقوله‏:‏ ‏{‏وربُّك الأكرمُ‏}‏ فإنه كلام مستأنف، وارد لإزاحة ما أظهر عليه السلام من العُذر بقوله‏:‏ «ما أنا بقارىء» يريد أنّ القراءة من شأن مَن يكتب ويقرأ، وأنا أمي، فقيل له‏:‏ ‏{‏وربك‏}‏ الذي أمرك بالقراءة مستعيناً باسمه هو ‏{‏الأكرم‏}‏ أي‏:‏ مِن كل كريم يُنعم على عباده بغاية النعم، ويحلم عنهم إذا عصوه، فلا يعاجلهم بالنقم فليس وراء التكرُّم بهذه الفوائد العظيمة تكرُّم‏.‏ ‏{‏الذي عَلَّم‏}‏ الكتابة ‏{‏بالقلم عَلَّم الإِنسانَ ما لم يعلم‏}‏ فدلّ على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم‏.‏ ونبّه على فضل علم الكتابة لِما فيه من المنافع العظيمة، وما دُوّنت العلوم ولا قُيّدت الحِكم ولا ضُبِطت أخبار الأولين، ولا كُتب الله المنزّلة، إلاَّ بالكتابة ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى دليل إلاّ أمر القلم والخطّ لكفى به وفي ذلك يقول ابن عاشر الفاسي‏:‏

لله في خلقه مِن صنعه عجبُ *** كادت حقائقُ في الوجود تنقلب

كلم بعين تُرى لا الأذنُ تسمعها *** خطابُها حاضر وأهلها ذهبوا

الإشارة‏:‏ اقرأ بربك لتكون به في جميع أمورك الذي أظهر الأشياء ليُعرف بها، وأظهر المظهر الأكبر وهو الإنسان من علقة مهينة، ثم رفعه بالعلم إلى أعلى عليين، فرفعه من حضيض النطفة الخبيثة إلى ارتفاع العلم والمعرفة، ولذلكم قال‏:‏ ‏(‏اقرأ وربك الأكرم‏)‏ الذي تكرَّم عليك وعلّمك ما لم تكن تعلم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يكن يعلم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 19‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ‏(‏6‏)‏ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ‏(‏7‏)‏ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ‏(‏8‏)‏ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ‏(‏9‏)‏ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ‏(‏10‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ‏(‏11‏)‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ‏(‏12‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ‏(‏14‏)‏ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ‏(‏15‏)‏ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ‏(‏16‏)‏ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ‏(‏17‏)‏ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ‏(‏18‏)‏ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏كلاَّ‏}‏، هو ردع لمحذوف، دلّ الكلام عليه، كأنه قيل‏:‏ خلقنا الإنسان من علق، وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة، فكفر وطغى، كلا لينزجر عن ذلك ‏{‏إِنَّ الإِنسان ليطغى‏}‏؛ يجاوز الحد ويستكبر عن ربه‏.‏ قيل‏:‏ هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد زمان، وهو الظاهر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أن رآه استغنى‏}‏ مفعول له، أي‏:‏ ليطغى لرؤية نفسه مستغنياً، على أنَّ «استغنى» مفعول لرأى، لأنه بمعنى عَلِم، ولذلك شاع كون فاعله ومفعوله ضميريْ واحد كما في «ظننتني وعَلِمتني» وإن جوّزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضاً، وجعل من ذلك قول عائشة رضي الله عنها‏:‏ «رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان، الماء والتمر»، والمشهور أنه خاص بأفعال القلوب‏.‏ وحاصل الآية‏:‏ أن سبب طغيان الإنسان هو استغناؤه بالمال، وسبب تواضعه هو فقره‏.‏

ثم هدّد الإنسان وحذّره من عاقبة الطغيان، على طريق الالتفات، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلى ربك الرُّجعى‏}‏ أي‏:‏ الرجوع فيجازيك على طغيانك‏.‏ ‏{‏أرأيت الذي ينهَى عبداً إِذا صلَّى‏}‏ أي‏:‏ أرأيت أبا جهل ينهى محمداً صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، وهو تشنيع بحاله، وتعجيب منها، وإيذان بأنه من البشاعة والغرابة بحيث يراها كل مَن يأتي منه الرؤية‏.‏ رُوي أنَّ أبا جهل كان في ملأ من قريش، فقال‏:‏ لئن رأيت محمداً لأطأنّ عنقه، فرأه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فجاءه ثم نكص على عقبيه، فقالوا‏:‏ مالك‏؟‏ فقال‏:‏ حال بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة، فنزلت، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو دنا من لاختطفته الملائكة»‏.‏

وتنكير العبد تفخيم لشأنه صلى الله عليه وسلم، والرؤية هنا بصرية، وأمّا في قوله‏:‏ ‏{‏أرأيت إن كان على الهدى أو أّمَرَ بالتقوى‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتَ إِن كَذَّب وتولَّى‏}‏ فعلمية، أي‏:‏ أخبرني فإنَّ الرؤية لمَّا كانت سبباً للإخبار عن المرائي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها‏.‏ والخطاب لكل مَن يصلح للخطاب‏.‏

قال في الكشاف‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏(‏الذي ينهى‏)‏ هو المفعول الأول لقوله‏:‏ ‏(‏أرأيت‏)‏ الأول، والجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني، وكررت ‏(‏أرأيت‏)‏ بعد ذلك للتأكيد، فلا تحتاج إلى مفعول‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ألم يعلم بأنَّ الله يرى‏}‏ هو جواب قوله‏:‏ ‏{‏إن كذَّب وتولى‏}‏، وجواب قوله‏:‏ ‏{‏إن كان على الهدى‏}‏ محذوف، يدل عليه جواب قوله‏:‏ ‏{‏إن كذَّب وتولى‏}‏ فهو في المعنى جواب للشرطين معاً‏.‏ والضمير في قوله‏:‏ ‏{‏إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى‏}‏ للناهي، وهو أبو جهل، وكذا في قوله‏:‏ ‏{‏إن كذَّب وتولَّى‏}‏، والتقدير على هذا‏:‏ أخبرني عن الذي ينهى عبداً إذا صلّى إن كان هذا الناهي على الهدى أو إن كَذّب وتولّى، ألم يعلم بأنّ الله يرى جميع أحواله، فمقصود الآية‏:‏ تهديد له وزجر، وإعلام بأنّ الله يراه‏.‏

وخالفه ابن عطية في الضمائر، فقال‏:‏ إنَّ الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى‏}‏ للعبد الذي صلَّى، وأنّ الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏إن كذَّب وتولّى‏}‏ للناهي، وخالفه في جعل «أرأيت» الثانية مكررة للتأكيد فقال‏:‏ «أرأيت» في المواضع الثلاثة توقيف، وأنّ جوابها في المواضع الثلاثة‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏ألم يعلم بأن الله يرى‏}‏ فإنه يصلح مع كل واحدة منها، ولكنه جاء في آخر الكلام اقتصاراً‏.‏ انظر ابن جزي‏.‏ وما قاله ابن عطية أظهر، فكأنه تعالى حاكِمٌ قد حضره الخصمان، يُخاطب هذا مرة والآخر أخرى، وكأنه قال‏:‏ يا كافر إن كانت صلاته هُدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى، ثم أقبل على الآخر، فقال‏:‏ أرأيت إن كذَّب‏.‏ الخ‏.‏

وقال الغزنوي‏:‏ جواب ‏{‏إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى‏}‏ محذوف، تقديره‏:‏ أليس هو على الحق واتباعه واجب، يعني‏:‏ فكيف تنهاه يا مكذّب، متولي عن الهدى، كافر، ألم تعلم أن الله يراك‏.‏ ه‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏، ردع للناهِي عن عبادة الله ‏{‏لئن لم ينتهِ‏}‏ عما هو عليه ‏{‏لَنَسْفعاً بالناصيةِ‏}‏؛ لنأخذن بناصية ولنسحبنّه بها إلى النار‏.‏ والسفع‏:‏ القبض على الشيء وجذبه بشدة‏.‏ وكَتْبُها في المصحف بالألف على حكم الوقف‏.‏ واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور، ثم بيّنها بقوله‏:‏ ‏{‏ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ‏}‏ فهي بدل وإنما صَحّ بدلها من المعرفة لوصفها، ووصفها بالكذب والخطأ على المجاز، وهما لصاحبهما‏.‏ وفيه من الجزالة ما ليس في قوله‏:‏ ناصية كاذب خاطىء‏.‏

‏{‏فَلْيَدْعُ ناديَه‏}‏، النادي‏:‏ المجلس الذي يجتمع فيه القوم‏.‏ رُوي أنَّ أبا جهل مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلّي، فقال‏:‏ ألم أَنْهكَ‏؟‏ فأغلط له النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً‏؟‏ فنزلت‏.‏ ‏{‏سَنَدْعُ الزبانية‏}‏ ليجروه إلى النار‏.‏ والزبانية‏:‏ الشُّرَطِ، واحدة‏:‏ زِبْنِيَّة أو زِبْنى، من الزبن، وهو الدفع‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَوْ دَعَا نَادِيهُ لأخَذَتْه الزَّبانِيةُ عِياناً»‏.‏

‏{‏كلاَّ‏}‏، ردع لأبي جهل ‏{‏لا تُطِعْهُ‏}‏ أي‏:‏ أثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُطِعِ المكذبين ‏(‏8‏)‏‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 8‏]‏ ‏{‏واسجدْ‏}‏؛ واظب على سجودك وصلاتك غير مكترث ‏{‏واقترب‏}‏؛ وتقرّب بذلك إلى ربك‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن أنكر على المتوجهين، الذين هم على صلاتهم دائمون، يُقال في حقه‏:‏ أرأيت الذي يَنهى عبداً إذا صلّى‏.‏‏.‏ إلى آخر الآيات‏.‏ ويُقال للمتوجه‏:‏ لا تُطعه واسجد بقلبك وجوارحك، وتقرّب بذلك إلى مولاك، حتى تظفر بالوصول إليه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة القدر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ‏(‏2‏)‏ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ‏(‏3‏)‏ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ‏(‏4‏)‏ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏، نوّه بشأن القرآن، حيث أسند إنزاله إليه بإسناده إلى نون العظمة، المنبىء عن كمال العناية به، وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للإيذان بغاية ظهوره، كأنه حاضر في جميع الأذهان، وقيل‏:‏ يعود على المقروء المأمور به في قوله‏:‏ ‏{‏اقرأ‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 1‏]‏ فتتصل السورة بما قبلها‏.‏ وعظَّم الوقت الذي أنزله فيه بقوله‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما ليلةٌ القَدْر‏}‏ لِما فيه من الدلالة على أنَّ علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يدريها إلاّ علاَّم الغيوب، كما يُشعر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهرٍ‏}‏ أي‏:‏ ليس فيها ليلة القدر، فإنه بيان إجمالي لشأنها إثر تشويقه صلى الله عليه وسلم إلى درايتها، فإنَّ ذلك مُعْرِب عن الوعد بإدرائها على ما تقدّم‏.‏ وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التفخيم ما لا يخفى‏.‏

والمراد بإنزاله‏:‏ إمّا إنزاله كله إلى سماء الدنيا، كما رُوي أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل نجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنة، وإمّا ابتداء نزوله، وهو الأظهر‏.‏ وسُميت ليلة القدر لتقدير الأمور فيها، وإبراز ما قضى تلك السنة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 4‏]‏، فالقَدْر بمعنى التقدير، أو لشرفها على سائر الليالي، فالقَدْر بمعنى الشرف، وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان على المشهورِ‏.‏ لما رُوي أنَّ أُبي بن كعب كان يحلف أنها ليلة السابع والعشرين، وقيل غير ذلك ومظان التماسها في الأوتار من العشر الأواخر‏.‏ ولعل السر في إخفائها تعرض مَن يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالي في طلبها، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى، واسمه الأعظم، وساعة الجمعة، ورضاه في الطاعات، وغضبه في المعاصي، وولايته في خلقه ليحسن الظن بالجميع‏.‏

وتخصيص الألف بالذكر إمّا للتكثير، أو لما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأُعطوا ليلةَ القدر هي خيرٌ من عمل ذل الغازي‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم كافة، فاستقصر أعمار أمته، فخاف ألاّ يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم، فأعطاه الله ليلة القدر، جعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم‏.‏ وقيل‏:‏ كان مُلك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فجعل الله هذه الليلة لِمن قامها خيراً من ملكيهما‏.‏

ثم بيّن وجه فضلها، فقال‏:‏ ‏{‏تَنزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها‏}‏، والروح إمّا جبريل عليه السلام، أو خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلاّ تلك الليلة، أو الرحمة‏.‏ والمراد بتنزلهم‏:‏ نزولهم إلى الأرض يُسلمون على الناس ويؤمِّنون على دعائهم، كما في الأثر‏.‏

وقيل‏:‏ إلى سماء الدنيا‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بإِذنِ ربهم‏}‏ يتعلق ب «تنزلُ»، أو بمحذوف هو حال من فاعله، أي‏:‏ ملتبسين بأمر ربهم، أو‏:‏ ينزلون بإذنه، ‏{‏من كل أمرٍ‏}‏ أي‏:‏ من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى قابل، رُوي أنَّ الله تعالى يُعْلِم الملائكة بكل ما يكون في ذلك العام كله، وقيل‏:‏ يَبرز ذلك مِن علم الغيب ليلة النصف من شعبان، ويُعْطَى الملائكةً ليلة القدر، فلما كان أهم نزولهم هذا الأمر جعل نزولهم لأجله، فلا ينافي كون نزولهم للتسليم على الناس والتأمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏سلامٌ هيَ‏}‏ أي‏:‏ ما هي إلاَّ سلام على المؤمنين، جعلها نفس السلام لكثرة ما يُسلِّمون على الناس، فقد رُوي أنهم يُسلِّمومن على كل قائم وقاعد وقارىء ومُصَلِّ، أو‏:‏ ما هي إلاِّ سلامة، أي‏:‏ لا يُقَدِّر الله تعالى فيها إلاّ السلامة والخير، وأمّا في غيرها فيقضي سلامةً وبلاء وقال ابن عباس‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏هي‏)‏ إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين؛ لأنّ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة‏.‏

ثم ذكر غايتها، فقال‏:‏ ‏{‏حتى مطلَعِ الفجر‏}‏ أي‏:‏ تنتهي إلى طلوع الفجر، أو‏:‏ تُسلِّم الملائكة إلى مطلع الفجر، أو‏:‏ تنزل الملائكة فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر‏.‏ و«مَطْلَع» بالفتح‏:‏ اسم زمان وبالكسر مصدر، أو اسم زمان على غير قياس؛ لأنّ ما يضم مضارعه أو يفتح يتحد فيه الزمان والمكان والمصدر، يعني «مَفْعَل» في الجميع‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل القلوب من العارفين، الأوقاتُ كلها عندهم ليلة القدر، والأماكن عندهم كلها عرفات، والأيام كلها جمعات، لأنّ المقصود من تعظيم الزمان والمكان هو باعتبار ما يقع فيه من التقريب والكشف والعيان، والأوقات والأماكن عند العارفين كلها سواء في هذا المعنى، كما قال شاعرهم‏:‏

لولا شهود جمالكم في ذاتي *** ما كنت أرضى ساعة بحياتي

ما ليلةُ القدر المعظَّم شأنها *** إلاَّ إذا عمرَتْ بكم أوقاتي

إنَّ المحب إذا تمكّن في الهوى *** والحب لم يحتج إلى ميقات

وقال آخر‏:‏

وكل الليالي ليلةُ القدر إن بدا *** كما كلُّ أيام اللقا يومُ جمعةِ

وسعيٌ له حجٌّ، به كلُّ وقفةٍ *** على بابه قد عادلت ألف وقفةِ

وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه‏:‏ نحن والحمد الله أوقاتنا كلها ليلة القدر‏.‏ ه‏.‏ لأنَّ عبادتهم كلها قلبية، بين فكرة واعتبار، وشهود واستبصار، و«فكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة»، كما في الأثر، بل فكرة العيان تزيد على ذلك، كما قال الشاعر‏:‏

كلُّ وقت من حبيبي *** قَدْرُه كألف حجه

وقد يقال‏:‏ ثواب هذه العبادة كشف الحجاب وشهود الذات الأقدسن هو لا يقاس بمقياس‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة البينة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏1‏)‏ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ‏(‏2‏)‏ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ‏(‏3‏)‏ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لم يكن الذين كفروا‏}‏ أي‏:‏ بالرسول وبما أنزل عليه ‏{‏من أهل الكتاب‏}‏ اليهود والنصارى، ‏{‏والمشركين‏}‏؛ عبَدة الأصنام ‏{‏منفكِّين‏}‏ منفصلين عن الكفر، وحذف لأنَّ صلة «الذين» يدل عليه، ‏{‏حتى تأتِيَهم البَيِّنَةُ‏}‏ الحجة الواضحة، وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ يقول‏:‏ لم يتركوا كفرهم حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلمّا بُعِثَ أسلم بعض وثبت على الكفر بعض‏.‏ أو‏:‏ لم يكونوا منفكين، أي‏:‏ زائلين عن دينهم حتى تأتيَهم البَينة ببطلان ما هم عليه، فتقوم الحجة عليهم‏.‏ أو‏:‏ لم يكونوا لينفصلوا عن الدنيا حتى بَعَثَ اللهُ محمداً فقامت عليهم الحجة، وإلاّ لقالوا‏:‏ ‏{‏لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 134‏]‏ الآية‏.‏

وتلك البينة هي ‏{‏رسولٌ من الله‏}‏ أي‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم وهو بدل من «البينة» ‏{‏يتلو‏}‏ يقرأ عليهم ‏{‏صُحفاً‏}‏ كتباً ‏{‏مُطَهَّرةً‏}‏ من الباطل والزور والكذب، والمراد‏:‏ يتلو ما يتضمنه المكتوب في الصحف، وهو القرآن، يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه، ولم يكن يقرأ مكتوباً؛ لأنه كان أُميًّا لا يكتب ولا يقرأ الصحف، ولكنه لَمَّا كان تالياً معنى ما في الصُحف فكأنه قد تلى الصُحف‏.‏ ثم بيّن ما في الصُحف، فقال‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ أي‏:‏ في الصُحف ‏{‏كُتب قَيِّمةٌ‏}‏ مستقيمة ناطقةٌ بالحق والعدل‏.‏ ولَمّا كان القرآن جامعاً لِما في الكتب المتقدمة صدق أنَّ فيه كُتباً قيمة‏.‏

‏{‏وما تَفَرَّقَ الذين أُوتوا الكتاب إِلاَّ مِن بعد ما جاءتهم البينةٌ‏}‏ أي‏:‏ وما اختلفوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ مِن بعد ما عَلِموا أنه حق، فمنهم مَن أنكر حسداً، ومنهم مَن آمن‏.‏ وإنّما أفرد أهل الكتاب بعدما جمع إولاً بينهم وبين المشركين؛ لأنهم كانوا على علمٍ به؛ لوجوده في كتبهم، فإذا وُصفوا بالتفرُّق عنه كان مَن لا كتاب له أدخل في هذا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين، أي‏:‏ منفصلين عن معرفة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام حتى بعثه الله‏.‏

‏{‏وما أُمروا إِلاَّ ليعبدوا اللهَ‏}‏ أي‏:‏ ما أُمروا في التوراة والإنجيل إلاّ لأجل أن يعبدوا الله وحده من غير شرك ولا نفاق، ولكنهم حرّفوا وبدّلوا‏.‏ وقيل‏:‏ اللام بمعنى «أن» أي‏:‏ إلاّ بأن يعبدوا الله ‏{‏مخلصين له الدينَ‏}‏ أي‏:‏ جاعلين دينَهم خالصاً له تعالى، أو‏:‏ جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين‏.‏ قال ابن جُزي‏:‏ استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء، وهو بعيد؛ لأنَّ الإخلاص هنا يُراد به التوحيد وترك الشرك، أو ترك الرياء‏.‏ انظر كلامه، وسيأتي بعضه في الإشارة‏.‏ ‏{‏حنفاءَ‏}‏ مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام، ‏{‏ويُقيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاةَ‏}‏ إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة، فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم بالدخول في شريعتنا، ‏{‏وذلك دِينُ القيِّمة‏}‏ أي‏:‏ الملة المستقيمة‏.‏

والإشارة إلى ما ذكر من عبادة الله وحده وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعُلو رتبته وبُعد منزلته‏.‏

الإشارة‏:‏ لم يكن الذين جحدوا وجودَ أهل الخصوصية من العلماء والجهّال منفكين عن ذلك حتى جاءتهم الحُجة القائمة عليهم، وهو ظهور شيخ التربية خليفة الرسول، يتلو كتابَ الله العزيز على ما ينبغي وما تَفَرَّقوا في التصديق إلاّ بعد ظهوره‏.‏ وما أُمروا إلاّ بالإخلاص وتطهير سرائرهم، وهو لا يتأتى إلاّ بصُحبته‏.‏ وتكلم ابنُ جزي هنا على الإخلاص، فقال‏:‏ اعلم أنَّ الأعمال على ثلاثة أنواع‏:‏ مأمورات ومنهيات ومباحات؛ فأمّا المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن‏:‏ خلوص النية لوجه الله، بحيث لا يشوبها أُخرى، فإن كانت كذلك فالعمل خالص، وإن كانت لغير وجه الله من طلب منفعة دنيوية أو مدح أو غير ذلك، فالعمل رياء محض مردود، وإن كانت النية مشتركة؛ ففي ذلك تفصيل، فيه نظر واحتمال‏.‏ قلت‏:‏ وقد تقدّم كلام الغزالي في سورة البقرة عند قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏، وحاصله‏:‏ أنَّ الحكم للغالب وقوة الباعث‏.‏ انظر لفظه‏.‏

ثم قال ابن جزي‏:‏ وأمَّا المنهيات فإنْ تَرَكها دون نية خرج عن عهدتها ولم يكن له أجر في تركها، وإن تركها بنية وجه الله خرج عن عهدتها وأُجر‏.‏ وأمَّا المباحات، كلأكل والشرب، والنوم والجماع وغير ذلك، فإن فَعَلَها بغير نية لم يكن له فيها أجر، وإن فَعَلَها بنية وجه الله فله فيها أجر، فإنَّ كُلَّ مباح يمكن أن يصير قُربة إذا قصد به وجه الله، مثل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة، ويقصد بالجِمَاع التعفُّف عن الحرام، وشبه ذلك‏.‏ ه‏.‏

ودرجات الإخلاص ثلاث‏:‏ الأولى‏:‏ أن يعبد الله لطلب غرض دنيوي أو أخروي من غير ملاحظة أحد من الخلق، والثانية‏:‏ أن يعبد الله لطلب الآخرة فقط، والثالثة‏:‏ أن يعبد الله عبودية ومحبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ‏(‏7‏)‏ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين‏}‏ المتقدمين في أول السورة، ‏{‏في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شَرُّ البريَّةِ‏}‏ أي‏:‏ الخليقة؛ لأنّ الله بَراهم، أي‏:‏ أوجدهم‏.‏ قُرىء بالهمزة، وهو الأصل ويعدمه مع الإدغام، وهو الأكثر‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خيرُ البريَّةِ‏}‏ لا غيرهم، ‏{‏جزاؤُهم عند ربهم جناتُ عدنٍ‏}‏ إقامة، ‏{‏تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورَضُوا عنه‏}‏ حيث بلغوا من الأماني قاصيها وملكوا من المآرب ناصيتها، وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏.‏ ‏{‏ذلك لِمَنْ خَشِيَ ربَّه‏}‏، فإنَّ الخشية التي هي مِن خصائص العلماء به مناطاة بجميع الكمالات العلمية والعملية، المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية‏.‏ والتعرُّض لعنوان الربوبية، المعربة عن المالكية والتربية؛ للإشعار بعلو الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية‏.‏ قاله ابو السعود‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خير البرية‏}‏ يدل على فضل المؤمنين من البشر على الملائكة‏.‏ وفيه تفصيل تقدّم ذكره في النساء‏.‏ قال القشيري‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خير البرية‏}‏ يدل على أنهم أفضل من الملائكة‏.‏ ه‏.‏ قال في الحاشية‏:‏ أي‏:‏ في الجملة، ثم ذكر حكاية الرجل الذي أحياه الله بعد موته بدعوة عيسى، فقال‏:‏ إنه كان في الجنة، وأنه مرّ بملأ من الملائكة، وهم يقولون‏:‏ إنَّ من بني آدم لَمَنْ هو أكرم على الله من الملائكة‏.‏ ثم ذكر عن نوادر الأصول‏:‏ أنَّ المؤمن أكرم على الله من الملائكة المقربين، فانظره‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الملائكة عقل بلا شهوة، والبهائم شهوة بلا عقل، والآدمي فيه عقل وشهوة، فمَن غلب عقلُه على شهوته كان كالملائكة أو أفضل، ومَن غلبت شهوتُه على عقله كان كالبهائم أو أضلّ‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ مَن كفر بأهل الخصوصية مِن أهل العلم وغيرهم لهم نار الحجاب والقطيعة، ومَن آمن بهم، ودخل تحت تربيتهم له جنات المعارف خالداً فيها، رضي الله عنهم حيث قرَّبهم إليه، ورَضُوا عنه حيث سلّموا الأمر إليه، وخشوا بعُده وطرده‏.‏ قال الإمام الفخر‏:‏ اعلم أنَّ العبد مُركَّب من جسد وروح، فجَنّة الجسد هي الموصوفة في القرآن، وجنة الروح هي رضا الرب‏.‏ والأُولى مبدأ أمره، والثانية منتهى أمره‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ عن الواسطي‏:‏ الرضا والسخط نعتان قديمان، يجريان على الأبد بما جرى في الأزل، يظهران الوسْم على المقبولين والمطرودين‏.‏ فقد بانت شواهد المقبولين بضيائها عليهم، كما بانت شواهد المطرودين بظلمتها عليهم‏.‏ ثم قال عن سهل‏:‏ الخشية سر والخشوع ظاهر‏.‏ ه‏.‏ فالخشية محلها البواطن، والخشوع ظهور أثر الخشية في الظاهر‏.‏ وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه‏.‏

سورة الزلزلة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ‏(‏1‏)‏ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ‏(‏3‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ‏(‏4‏)‏ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ‏(‏6‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ‏(‏7‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِذا زُلزلت الأرضُ‏}‏ أي‏:‏ حُركت تحريكاً عنيفاً مكرراً متداركاً، ‏{‏زِلزالها‏}‏ أي‏:‏ الزلزلة المخصوصة بها على مقتضى المشيئة الإلهية، وهو الزلزال الشديد الذي لا غاية وراءه، أو‏:‏ زلزالها العجيب الذي لا يُقادر قدره‏.‏ قال ابن عرفة‏:‏ المراد‏:‏ الأرض الأولى؛ لأنّ الثانية ليس فيها أموات‏.‏ ولكن السموات عند المنجِّمين متلاصقة بعضها مع بعض، وكذلك الأرضون، وعندنا يجوز أن يكون بينهما تخلُّل، وهو ظاهر حديث الإسراء‏.‏ ه‏.‏

وذلك عند النفخة الثانية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخرجت الأرضُ أثقالها‏}‏ أي‏:‏ ما في جوفها من الأموات والدفائن، جمع‏:‏ ثِقُل، وهو‏:‏ متاع البيت، جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها‏.‏ وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو‏:‏ للإيماء إلى تبدُّل الأرض غير الأرض‏.‏ ‏{‏وقال الإنسانُ‏}‏ أي‏:‏ كل فرد مِن أفراده، لِما يدهمهم من الطامة التامة، ويبهرهم من الداهية العامة‏:‏ ‏{‏ما لها‏}‏ زُلزلت هذه الزلزلة الشديدة، وأخرجت ما فيها من الأثقال، استعظاماً لِما شهدوه من الأمر الهائل، وقد سُيرت الجبال وفي الجو فصارت هباءً‏.‏ وهذا قول عام يقوله المؤمن بطريق الاستعظام، والكافر بطريق التعجًّب‏.‏

‏{‏يومئذٍ تُحَدِّثُ أخبارَها‏}‏ يوم إذا زلزلت الأرض تُحَدِّث الناس أخبارها بما وقع على ظهرها، قيل‏:‏ يُنطقها اللهُ وتُحدِّث بما وقع عليها خيرٍ وشر، رُوي عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنها تشهد على كل أحدٍ بما عمل على ظهرها» ‏{‏بأنّ ربك أوْحى لها‏}‏ أي‏:‏ بسبب أنَّ ربك أوحى لها بأن تُحَدِّث أي‏:‏ أَمَرَها بذلك‏.‏ والحديث يستعمل بالباء وبدونها، يقال‏:‏ حدثت كذا وبكذا، و«أوحى» يتعدى باللام وب «إلى»‏.‏

‏{‏يومئذٍ‏}‏ أي‏:‏ يوم إذ يقع ما ذكر ‏{‏يَصْدُر الناسُ‏}‏ من قبورهم إلى موقف الحساب ‏{‏أشتاتاً‏}‏ متفرقين طبقات منهم بِيض الوجوه آمنين، ومنهم سُود الوجوه فزعين، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 18‏]‏ وقيل‏:‏ يصدرون غن الموقف أشتاتاً، ذات اليمين إلى الجنة، وذات الشمال إلى النار، ‏{‏لِيُرَوا أعمالَهم‏}‏ أي‏:‏ جزاء أعمالهم خيراً أو شراً‏.‏

‏{‏فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يَرَهُ‏}‏، والذرة‏:‏ النملة الصغيرة‏.‏ وقيل‏:‏ ما يرى في شعاع الشمس من البهاء‏.‏ و«خيراً»‏:‏ تمييز، ‏{‏ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شراً يَرَهُ‏}‏ قيل‏:‏ هذا في الكافر، والأُولى في المؤمنين‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ ليس مؤمن ولا كافر، عَمِلَ خيراً ولا شرًّا في الدنيا إلاّ يراه في الآخرة، فأمّا المؤمن فيرى حسناته وسيئاته، فيغفر اللهُ سيئاته ويُثيبه بحسناته، وأمّا الكافر فيَرُدُّ اللهُ حسناته ويُعذبه بسيئاته‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ الكافر يرى ثوابه في الدنيا، في أهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، والمؤمن يرى عقوبته في الدنيا، في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر‏.‏

وفي الحديث‏:‏ «إذا تاب العبدُ عن ذنبه أَنْسَى الله الحفظةَ ذنوبه، وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض، حتى يلقى الله وليس عليه شاهد بذنب»‏.‏

قال ابن جُزي‏:‏ هو على عمومه في الكافر، وأمّا المؤمنون فلا يُجْزَون بذنوبهم إلاَّ بستة شروط؛ أن تكون ذنوبهم كِبار، وأن يموتوا قبل التوبة منها، وألاَّ يكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها وألاّ يُشفع فيهم، وألاّ يكونوا ممن استحق المغفرة بعملٍ، كأهل بدر، وإلاّ يعفو الله عنهم، فإنّ المؤمن العاصي في مشيئة الله، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا زُلزلت أرضُ النفوس زلزالها اللائق بها، وحُركت بالواردات والأحوال وتحققت الغيبة عنها بالكلية، أشرقت شمس العرفان، فغطّت وجودَ الأكوان، كما قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه مُنشِداً‏:‏

فلوا عاينت عيناك يوم تزلزلت *** أرض النفوس ودُكت الأجبال

لرأيتَ شمس الحق يسطع نورها *** يوم التزلزل والرجال رجال

وأخرجت حينئذ ما فيها من العلوم يومئذ تُحَدِّث أخبارها‏:‏ أخبار الأسرار الكامنة فيها، بأنّ ربك أوحى لها إلهاماً‏.‏ يومئذ يَصْدُر الناسُ من الفناء إلى البقاء، أشتاتاً، فمنهم الغالب حقيقته، ومنهم الغالب شريعته، ومنهم المعتدل‏.‏ أو‏:‏ فمنهم الغالب عليه القبض والقوة، ومنهم الغالب عليه البسط والليونة، وهذا أعم نفعاً‏.‏ والله أعلم‏.‏ وذلك لِيُروا أعمال مجاهدتهم بالتنعُّم في مشاهدتهم، فمَن يعمل مثقال ذرة خيراً بأن ينقص من نفسه عادةً في سيره يرَ جزاء ذلك، ومَن يعمل مثقال ذرة شرًّا بأن يزيد من الحس شيئاً في الظاهر يره، فإنه ينقص من معناه في الباطن، إلاّ إذا تمكّن من الشهود‏.‏ وبالله التوفيق وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة العاديات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ‏(‏1‏)‏ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ‏(‏2‏)‏ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ‏(‏4‏)‏ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ‏(‏9‏)‏ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والعادياتِ ضَبْحاً‏}‏، أقسم تعالى بخيل الغزاة تعدو فتضبَح، والضبح‏:‏ صوت أنفاسها إذا عَدَون، وحكى صوتها ابنُ عباس، فقال‏:‏ أحْ، أحْ‏.‏ وانتصاب «ضبحاً» على المصدر، أي‏:‏ يضبحن ضبحاً، أو‏:‏ بالعاديات، فإنَّ العَدْو يستلزم الضبح، كأنه قيل‏:‏ والضابحات ضبحاً، أو‏:‏ حال، أي‏:‏ ضابحات‏.‏ ‏{‏فالمُورِيات قَدْحاً‏}‏ الإيراء‏:‏ إخراج النار والقدح‏:‏ الصكّ يقال‏:‏ قدح فأوْرى، أي‏:‏ فالتي تُوري النارَ من حوافرها عند العَدْو‏.‏ وانتصاب «قدحاً» كانتصاب ضبحاً‏.‏ ‏{‏فالمُغيراتِ‏}‏ التي تغير على العدوّ، ‏{‏صُبْحاً‏}‏ أي‏:‏ وقت الصبح، وهو المعتاد في الغارات، يعدون ليلاً لئلا يشعر بهم العدو، ويهجمون عليهم صباحاً ليروا ما يأتون وما يذرون‏.‏ وإسناد الإغارة التي هي متابعة العدو، والنهب والقتل والأسر إلى الخيل، وهي حال الراكب عليها، إيذاناً بأنها العمدة في إغارتهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأثَرْنَ به نَقْعاً‏}‏ أي‏:‏ غباراً، عطف على الفعل الذي دلّ عليه اسم الفاعل، إذا المعنى‏:‏ واللاتي عدون فأَوْرَين فأغرن فأثرن، أي‏:‏ هيّجن به غباراً، وتخصيص إثارته بالصُبح لأنه لا تظهر إثارته بالليل، كما أنَّ الإيراء الذي لا يظهر بالنهار واقع بالليل‏.‏ والحاصل‏:‏ أنّ العَدْو كان بالليل وبه يظهر أثر القدح من الحوافر، ولا يظهر النقع إلاّ في الصبح‏.‏ ‏{‏فَوسَطْنَ به‏}‏ أي‏:‏ فوسطن بذلك الوقت ‏{‏جَمْعاً‏}‏ من جموع الأعداء والفاء لترتيب ما بعد كل على ما قبله، فإنَّ توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتب على الإغارة، المترتبة على الإيراء، والمترتب على العدْو‏.‏

وجواب القسم‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإِنسانَ لِربه لَكَنُود‏}‏ أي‏:‏ لَكفور، من‏:‏ كند النعمة‏:‏ كَفَرها‏.‏ وقيل‏:‏ الكنود هو الذي يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده‏.‏ وقيل‏:‏ اللوّام لربه، يَعْد المحنَ والمصائبَ، وينسى النعم والراحات‏.‏ وعلى كل حالٍ فلا يخرج عن أن يكون فسقاً أو كفراً أو تقصيراً في شكر الله على نعمه، وتقصيراً وتفريطاً في الاستعداد للقائه، وفي التعظيم لجنابه، وبالجملة فهو القليل الخير، ومنه‏:‏ الأرض الكنود، التي لا تُنبت شيئاً‏.‏ قال‏:‏ في الحاشية الفاسية‏:‏ والظاهر من سياق السورة أنّ الكنود هو مَن اهتمامه بدنياه دون آخرته، ولذلك كان حريصاً على المال، ويرتكب المشاق في جمعه، ولا يُبالي بآخرته، ولا يستعد لمآله ولا لآخرته، ولا يُقَدِّم لها، وذلك لغفلته وجهله بربه وما أراده منه، وطلبه من السعي للآخرة، وقد ضَمِنَ له رزقه، فلذلك بعد أن عدّد مذامّه هدّده ورهّبه بقوله‏:‏ ‏{‏أفلا يعلم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ه‏.‏

والآية إمّا في جنس الإنسان إلاَّ مَن عصمه الله، وهو الأظهر، أو في مُعَيَّن، كالوليد أو غيره‏.‏ قيل‏:‏ إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أُناس من بني كنانة سرية، واستعمل عليها المُنذر بن عمرو الأنْصاريّ، وكان أحد النقباء، فأبطأ خبره عنه صلى الله عليه وسلم شهراً، فقال المنافقون‏:‏ إنهم قُتلوا، فنزلت السورة بسلامتها، بشارةً له صلى الله عليه وسلم ونعياً على المرجفين وهذا يقتضي أن السورة مدنية، وهو خلاف قول الجمهور، كما تقدّم‏.‏

‏{‏وإِنه‏}‏ أي‏:‏ الإنسان ‏{‏على ذلك‏}‏ أي‏:‏ على كنوده ‏{‏لَشَهِيدٌ‏}‏ يشهد على نفسه بالكنود، لظهور أثره عليه، ‏{‏وإِنه لِحُبّ الخير‏}‏ أي‏:‏ المال ‏{‏لَشَدِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ قويٌّ مُطيق مُجد في طلبه، متهالك عليه، وقيل‏:‏ لشديد‏:‏ لبخيل، أي‏:‏ وإنه لأجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبَخِيل مُمْسِك، ولعل وصفه بهذا الوصف اللئيم بعد وصفه بالكنود للإيماء إلى أنَّ مِن جملة الأمور الداعية المنافقين إلى النفاق حب المال؛ لأنهم بما يُظهرون من الإيمان يعصمون أموالهم، ويحوزون من الغنائم نصيباً‏.‏

ثم هدّد الكَنود، فقال‏:‏ ‏{‏أفلا يعلمٌ إِذا بُعْثِر ما في القبور‏}‏ أي‏:‏ بُعث فيها، و«ما» بمعنى «من»، ‏{‏وحُصِّلَ ما في الصدور‏}‏؛ مُيِّز ما فيها من الخير والشر، أي‏:‏ أفلا يعلم مصيره، وأنَّ الله مُطلع عليه، في سيرته وسريرته، فيُجازيه على تفريطه في جنبه وطاعته واتباع هواه وشهواته، فآثر العاجلةَ على الآخرة، وحظوظَه على حقوق ربه والقيام بعبوديته‏.‏ ‏{‏إِنَّ ربهم بهم يومئذٍ لَخبير‏}‏ أي‏:‏ عالم بظواهر ما عمِلوا وباطنه، عِلماً موجباً للجزاء، متصلاً به، كما يُنبىء عنه تقييده بذلك اليوم، إلاَّ فعلمه سبحانه مطلق محيط بما كان وما سيكون‏.‏ وقوله‏:‏ «بهم» و«يومئذ» يتعلقان ب «بخبير» قُدما لرعاية الفواصل واللام غير قادحة، وذلك لما يغتفر في المجرورات، وقرأ ابن السمّاك‏:‏ «أن ربهم بهم يومئذ خبير»‏.‏

الإشارة‏:‏ أقسم تعالى بأرواح المتوجهين، التي تعدو على الخواطر الردية، فتمحوها بقهرية المراقبة، وتقدح من زند القلب نور الفكرة والنظرة، وتُغِير على أعدائها من الدنيا والهوى والنفس والشيطان، فتقهرهم بسيوف المخالفة عند سطوع المشاهدة، وتُثير غبار المساوىء والذنوب بريح الهداية والتوبة، فيذهب في الهواء، وتوسط جمعاً من العلوم والأسرار، فتحوزهم في خزانة قلبها وسِرها، غنيمةً وذخيرةً، وجوابه‏:‏ إنّ الإنسان لربه لكنود، مع أنه مغروق في النعم، وهو لا يشعر ولا يشكر، لغفلته وعدم تفكُّره، وهذا الإنسان هو الغافل الجاهل‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ الإنسانُ لا يعرف ما أعطاه الله من نعمه بالحقيقة، وإنه لكفور إذ لا يعرف مُنعمه، ثم قال عن الواسطي‏:‏ الكنود يعدّ ما مِنه من الطاعات، وينسى ما مّن الله به عليه من الكرامات‏.‏ ه‏.‏ وإنه على ذلك لشهيد؛ يشهد كفره وعصيانه وبُخله بحسب جبلته، وإنه لِحُب الخير لشديد يأثره على معرفة مولاه، فخسر خسراناً مبيناً، أفلا يعلم ما يحلّ به إذا بُعثر ما في القبور، فتظهر الأبطال من الأرذال، وحُصِّل ما في الصدور من المعارف وأنواع الكمال، إنّ ربهم بهم يومئذ لخبير، فيُجازي أهلَ الإحسان وأهل الخذلان، كُلاًّ بما يليق به‏.‏ وبالله التوفيق وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏